![]() |
| Photo by Mariia Shalabaieva on Unsplash |
التوتر بين الرؤية والاتجاه: عندما لا يلتقي العلم بالاستراتيجية
في خطوة تهزّ المشهد التقني العالمي، كشفت تقارير صحفية (أوردها أولًا Financial Times) أن عالم الذكاء الاصطناعي يان ليكون، أحد أعمدة الذكاء العميق والحاصل على جائزة تورينغ، يستعد لمغادرة شركة Meta بعد أكثر من عقدٍ قضاها في بناء مختبر FAIR للأبحاث الأساسية. قرار ليكون لا يُقرأ كمجرد انتقال شخصي، بل كعلامة فارقة في الصراع الدائر داخل كبرى شركات التكنولوجيا: بين الذكاء الاصطناعي كعلم والذكاء الاصطناعي كـمنتج تجاري جاهز للإطلاق.
مارك زوكربيرغ غيّر بوصلة الشركة نحو مشاريع “الذكاء الفائق” (Superintelligence) — وهو تحولٍ جذري جعل من ألكسندر وانغ، مؤسس Scale AI، قائدًا لهذا المسار الجديد، بينما وجد ليكون نفسه في موقعٍ جانبي ضمن المؤسسة التي كان أحد مهندسي هويتها البحثية.
لكن خلف هذا التحول تقبع قصة أعمق: رؤية ليكون لمستقبل الذكاء الاصطناعي تختلف جوهريًا عن السائد في وادي السيليكون.
من الشبكات الالتفافية إلى "نماذج العالم": رحلة ضد التيار
يعرف ليكون كأحد الآباء الثلاثة للتعلم العميق إلى جانب جيفري هينتون ويوشوا بنجيو. إنجازه الأبرز، الشبكات العصبية الالتفافية (CNNs)، مهّد لثورة التعرف على الصور والكلام والفيديو. لكن المفارقة أن نفس الثورة التي ساهم في إشعالها بدأت تأخذه إلى طريق آخر.
فبينما تتسابق شركات مثل OpenAI وGoogle DeepMind لبناء نماذج لغوية عملاقة (LLMs) أكثر حجمًا وتعقيدًا، يرى ليكون أن هذا الاتجاه محدود بطبيعته. في رأيه، اللغة لا تمثل الواقع بل تصفه، ولذلك فتعليم الآلات عبر النصوص فقط لن ينتج ذكاءً قادرًا على الفهم والتخطيط.
من هنا جاءت فكرته عن “نماذج العالم” (World Models) — أنظمة تتعلم من الفيديوهات والبيانات المكانية لتكوين تصور فيزيائي للعالم يشبه ما يمتلكه البشر. هذه الرؤية لا تعد فقط بذكاء أكثر واقعية، بل بتقنيات جديدة تمامًا في التفاعل مع البيئات المعقدة، من الروبوتات الصناعية إلى المركبات ذاتية القيادة.
لكن الطريق طويل. حتى ليكون نفسه أقرّ أن تطوير هذه النماذج قد يستغرق عقدًا من الزمن. وهنا يظهر التناقض الحاد مع فلسفة ميتا الحالية: شركات وول ستريت لا تنتظر عشر سنوات لتُثبت نظرية علمية.
ميتا بين الطموح التجاري والبحث النقي
تحت ضغط المستثمرين، ضاعفت ميتا إنفاقها على الذكاء الاصطناعي ليصل إلى مستويات غير مسبوقة، مع وعود باستثمارات تتجاوز 100 مليار دولار في العام القادم. ومع ذلك، فشل نموذج Llama 4 في تحقيق الأداء المرجو مقارنة بنماذج Google وOpenAI وAnthropic، بينما لم يجد روبوت الدردشة Meta AI طريقه إلى المستخدمين.
ردّ زوكربيرغ كان سريعًا وحاسمًا: إعادة هيكلة كاملة، واستقدام مواهب برواتب تصل إلى 100 مليون دولار، وفي خطوة كشفت حجم الرهان، دفع 14.3 مليار دولار لتوظيف ألكسندر وانغ والاستحواذ على حصة كبيرة في شركته Scale AI. هذا لا يعكس مجرد توظيف، بل استحواذًا استراتيجيًا على رؤية جديدة، كما أشار تقرير Financial Times.
لكن خلف هذه التغييرات التنظيمية، يكمن صراع أيديولوجي أعمق بين فريقٍ يرى أن طريق الريادة يمر عبر التسويق السريع للنماذج الضخمة، وآخر — بقيادة ليكون — يؤمن أن الذكاء الحقيقي لا يُختصر في النصوص ولا يُشترى بالصفقات.
إنها المقايضة الكلاسيكية في الذكاء الاصطناعي الحديث: العمق العلمي مقابل الوتيرة التجارية. ليكون اختار الأول.
الخطوة القادمة: شركة جديدة على أطلال نموذج فكري قديم
بحسب مصادر قريبة من ليكون، بدأ العالم الفرنسي الأمريكي بالفعل محادثات أولية لجمع تمويل لمشروعه الجديد — يُرجّح أنه سيركز على تطوير بنية "نماذج العالم" المستقلة عن نهج النماذج اللغوية السائد. ما يجعل هذه الخطوة مثيرة هو أنها قد تُعيد رسم المشهد البحثي في الذكاء الاصطناعي من الخارج، وليس من داخل الشركات العملاقة.
هذا التحول يعيد للأذهان موجة الانفصال البحثي التي شهدتها الصناعة في منتصف العقد الماضي، عندما غادر باحثون لتأسيس مشاريع أكثر تحررًا مثل DeepMind وOpenAI، سعيًا وراء الاستقلالية عن ضغط الأرباح الفوري. والآن، يبدو أن ليكون يقود موجة جديدة من "المنشقين العلميين" داخل الذكاء الاصطناعي التجاري.
إذا نجح مشروعه، فقد يفتح الباب أمام نوع جديد من الذكاء — ذكاء يفهم العالم لا من خلال النصوص، بل من خلال التجربة. وإن فشل، فسيكون درسًا آخر في حدود الطموح النظري أمام عجلة السوق.
ما تعلمته من سنوات تغطية التكنولوجيا
على مدى أكثر من 15 عامًا من تغطية الصناعة التقنية، رأيت الموجات تتكرر: من فورة البلوك تشين في 2017 إلى الضجيج الذي صاحب GPT-3 في 2020، مرورًا بانفصال الباحثين عن المؤسسات الكبرى لتأسيس مشاريع أكثر حرية مثل DeepMind وOpenAI. في كل مرة، كان الدرس واحدًا: الابتكار الحقيقي يبدأ عندما يتراجع الضجيج.
ما يفعله يان ليكون اليوم يذكّرني بتلك اللحظات النادرة حين يختار العالم أن يقول "لا" للاتجاه السائد. كما رأينا مع مؤسسي OpenAI الأوائل، الانفصال عن المؤسسات الضخمة لم يكن تمردًا، بل بحثًا عن مساحة للتجريب بعيدًا عن ضغط السوق.
قد لا تكون "نماذج العالم" جاهزة للمنتجات، لكنها تمثل تذكيرًا قويًا بأن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد سباق في حجم البيانات أو عدد المعلمات، بل بحث مستمر عن فهمٍ أعمق لكيفية تفكيرنا نحن البشر.
نصيحتي للمطورين وقادة الشركات: تابعوا من يرحل، لا فقط من يُعلن. لأن المستقبل في كثير من الأحيان يبدأ من خارج المقر الرئيسي.
