وكيل الذكاء الاصطناعي: بين الوعد المعرفي والسلطة الرقمية

Image by rawpixel.com on Freepik


عندما يفشل الذكاء في أن يكون “وكيلًا”

في مقابلته على بودكاست دواركيش، قدّم أندريه كارباثي  الشريك المؤسس لـ OpenAI  تشخيصًا دقيقًا لحالة وكلاء الذكاء الاصطناعي الحالية: "إنها ببساطة لا تعمل". لم يكن يقلل من التقدم التقني بقدر ما كان يحدد بدقة نقاط الضعف الجوهرية التي تمنع هذه الأنظمة من العمل بفعالية. فالنماذج الحالية، كما أشار، تفتقر إلى الذاكرة المستمرة، والقدرة على التعلم التفاعلي، والفهم متعدد الوسائط اللازم للمهام المستقلة الحقيقية.

في خضم ضجيج السوق حول “عام الوكلاء”، يذكّر كارباثي الصناعة بأن الأدوات البرمجية المتاحة اليوم ما زالت أقرب إلى واجهات مساعدة متقدمة منها إلى كيانات معرفية ذات استقلال فعلي. وبينما تسعى الشركات إلى بناء وكلاء يتعاملون مع التعليمات مثل البشر، تبقى الحقيقة التقنية أن الوكلاء ما زالوا "يفهمون" الأوامر أكثر مما "يدركون" السياق.


بين الشك النظري والتطبيق العملي

هذا التناقض الحاد بين تحذير كارباثي النظري والتطبيق العملي في موانئ أبوظبي لا يكشف عن خطأ أحدهما، بل عن تعريفين مختلفين جذريًا لـ "وكيل الذكاء الاصطناعي". فبينما يتحدث كارباثي عن كيان مستقل معرفيًا، تبني مجموعة AD Ports أدوات مؤتمتة محددة المهام تعمل كوكلاء وظيفيين ضمن بيئة تشغيل خاضعة للإشراف البشري.

في نظامهم الداخلي، يستطيع أي موظف "توظيف" وكيل ذكاء اصطناعي عبر منصة داخلية تولّد خطة بناء واضحة. ويمكن إنشاء ونشر وكيل بسيط خلال ساعة واحدة فقط  خطوة تتيح تطوير شبكة مترابطة من الأدوات التي تتعامل مع مهام محددة، من صياغة الوصف الوظيفي إلى تحليل وثائق الامتثال. هذه ليست “عقولًا رقمية”، بل امتدادات خوارزمية موجهة نحو الكفاءة.

تجربة موانئ أبوظبي تكشف أن “الذكاء” الأكثر قيمة اليوم ليس ذاك الذي يحاكي الإنسان، بل الذي يندمج في البنية التشغيلية بسلاسة. فالوكيل لا يحتاج أن يكون واعيًا ليوفر آلاف الدراهم عبر تحسين سرعة السفن، أو لتقليل الانبعاثات الكربونية من خلال توقع الازدحام في الميناء.


معادلة الثقة والخطأ

تتضح محدودية الوكلاء الحالية عند تحليل رياضيات الموثوقية؛ فمع معدل خطأ تقريبي يبلغ 20% لكل إجراء، كما تقدره ScaleAI، فإن احتمال إكمال مهمة من خمس خطوات بنجاح لا يتجاوز 32%. هذه المعادلة البسيطة تفسر لماذا يصعب الاعتماد على الوكلاء في بيئات حرجة مثل البرمجة المعقدة أو إدارة الأصول المالية.

وهنا يبرز جوهر التحدي: كلما ازدادت مهام الوكيل، تضاعفت احتمالية الخطأ. هذا ما يجعل النماذج التي تروج لها الشركات على أنها "مستقلة بالكامل" في الواقع تحتاج إلى إشراف بشري دقيق  ليس بدافع الحذر فقط، بل بدافع البقاء ضمن حدود الموثوقية التقنية.


في الكريبتو: الوكلاء الذين كسروا وعود اللامركزية

بينما تنضبط موانئ أبوظبي ضمن نموذج مركزي واضح، تحاول صناعة الكريبتو تطبيق مفهوم وكيل الذكاء الاصطناعي في بيئة معاكسة تمامًا بلا إشراف، بلا ترخيص، وبمليارات الدولارات المتداولة.

منصة Virtuals وحدها تستضيف أكثر من 11,000 وكيل ينفذ تداولات مالية دون تدخل بشري، في سوق تجاوز 13.5 مليار دولار. لكنها مفارقة لاذعة: معظم هؤلاء الوكلاء يعملون عبر نماذج مغلقة من OpenAI أو Anthropic، مما يعيد المركزية إلى قلب نظام صُمم للامركزية. فبينما تظل البلوكشين شفافة، تصبح طبقة الذكاء “صندوقًا أسود” تديره شركات قليلة.

ردًّا على ذلك، تظهر مشاريع مثل Kava وBittensor لتبني نموذجًا بديلًا يقوم على الوكلاء المفتوحين، الذين تُنفّذ قراراتهم على السلسلة وتُراجع علنًا. هذه المقاربة أبطأ وأعقد تقنيًا، لكنها تحافظ على المبدأ الأساسي لثقة Web3: لا ذكاء بلا شفافية.


السلطة الرقمية: من يملك “العقل” يملك القرار

سواء كان وكيل الذكاء الاصطناعي يدير حاوية شحن في ميناء أو محفظة استثمارية على البلوكشين، فإنه في جوهره يمثل تفويضًا للسلطة الرقمية. تجربة موانئ أبوظبي توضح نموذجًا تكون فيه هذه السلطة مركزية وخاضعة للرقابة البشرية، بينما يكشف عالم الكريبتو عن تحديات تفويض السلطة في بيئة لا مركزية.

وبين هذين النموذجين تتحدد ملامح مستقبل “الوكالة الذكية”: ليس في من سينجز المهام بسرعة أكبر، بل في من سيحافظ على الثقة عند منح الذكاء الاصطناعي سلطة اتخاذ القرار. فالتحكم في “العقل”  الخوارزمية، الذاكرة، وبيئة التشغيل  أصبح الشكل الجديد من السيطرة في العصر الرقمي.


ما تكشفه الدورة التكنولوجية الجديدة

تكشف المقارنة بين حماس سوق الكريبتو وتحذيرات كارباثي عن نمط مألوف في دورات التكنولوجيا. فكما حدث مع البلوكشين في عام 2017 والواقع المعزز لاحقًا، تبدأ الموجات بوعود ثورية لتستقر في نهاية المطاف عند تطبيقات أكثر واقعية وتحديدًا. الفارق اليوم هو أن وكلاء الذكاء الاصطناعي، على عكس المفاهيم السابقة، يملكون القدرة على التجذر بسرعة في العمليات المؤسسية، ليس لأنهم أذكى، بل لأنهم يقدمون حلولًا عملية لمشكلات متكررة في سلاسل التوريد والقطاع المالي.

الابتكار الحقيقي هنا ليس في بناء وكيل شامل قادر على “الفهم”، بل في صياغة وكلاء محددي الوظيفة، يمكن مراقبتهم ومساءلتهم. فالثقة  وليس الأداء هي التي ستحدد من سينتصر في سباق بناء العقول الاصطناعية.


خلاصة التحليل:

وكلاء الذكاء الاصطناعي اليوم يقفون عند مفترق طريقين  أحدهما يسعى لخلق وعي رقمي مستقل، والآخر يتقن أتمتة المهام المحدودة بدقة وشفافية. الأول يحلم بالثورة، والثاني يصنع التغيير فعليًا. وبينهما، يتشكل السؤال الأهم في هذا العقد: كيف نوازن بين كفاءة الخوارزمية وسيادة القرار الإنساني؟

أحدث أقدم