![]() |
| Photo by Daniel Nyoka on Unsplash |
موجة التسريح أم لحظة إعادة هيكلة ذكية؟
إعلان أمازون الأخير عن تقليص نحو 14,000 وظيفة في إدارتها المؤسسية لم يكن مجرد خبر اقتصادي؛ بل مؤشر على مرحلة جديدة في علاقة الشركات العملاقة بالذكاء الاصطناعي. الشركة أوضحت أن الخطوة تهدف إلى "تنظيم أكثر رشاقة" يتيح لها "انتهاز الفرص التي توفرها تقنيات الذكاء الاصطناعي"، وهي عبارة تحمل وعود الكفاءة… ومخاوف فقدان الوظائف في آن واحد.
لكن هل الذكاء الاصطناعي هو المتهم الحقيقي؟ أم أنه مجرد شماعة لقرارات اقتصادية أوسع؟
بين التبرير الاقتصادي والواقع التقني
من السهل ربط التسريحات بالذكاء الاصطناعي، خاصة بعد أن أكدت بيث غاليتي، نائبة الرئيس في أمازون، أن "الجيل الحالي من الذكاء الاصطناعي هو الأهم منذ الإنترنت". هذا الشعور نفسه كرره الرئيس التنفيذي آندي جاسي، الذي أشار إلى أن التقنية الجديدة "ستؤدي حتمًا إلى تقليص بعض الوظائف التقليدية". لكن تحليل بيانات السوق يظهر صورة أكثر تعقيدًا.
مؤسسات مثل بنك الاحتياطي الفيدرالي في سانت لويس لاحظت ارتفاعًا في معدلات البطالة في الوظائف الأكثر عرضة لتقنيات الذكاء الاصطناعي منذ عام 2022، خاصة في قطاعات الدعم الإداري وخدمة العملاء. ومع ذلك، أظهرت دراسات مستقلة من جامعة بيتسبرغ أن التأثير كان محدودًا جغرافيًا ومهنيًا؛ فالمبرمجون ومهندسو البيانات لم يتأثروا بالقدر الذي أُشيع.
يبدو أن ما يحدث ليس "استبدالًا مباشرًا" للبشر بالآلات بقدر ما هو "إعادة توزيع للمهام"، حيث تتقلص بعض الأدوار الإدارية المتكررة، في حين تنمو أدوار جديدة في إدارة النظم الذكية وتحسين البيانات وتطوير النماذج اللغوية.
أمازون في صدارة التحول
أمازون ليست حالة معزولة، لكنها تمثل أكثر الأمثلة وضوحًا. بعد سنوات من التوسع المفرط خلال جائحة كورونا، تسعى الشركة اليوم إلى موازنة الكفاءة مع النمو. أقسام مثل الخدمات السحابية (AWS) واللوجستيات شهدت أكبر نسب التخفيض، بالتوازي مع استثمار متزايد في أدوات الذكاء الاصطناعي الداخلية — من تحسين سلسلة التوريد إلى أتمتة خدمات الدعم الفني.
وهنا تكمن المفارقة: فالتخفيضات لا تأتي "بسبب" الذكاء الاصطناعي فقط، بل "لأجل" الذكاء الاصطناعي. الشركة أوضحت نيتها التوسع مجددًا في مجالات استراتيجية بحلول عام 2026، ما يعني أن الهيكلة ليست انسحابًا من التوظيف بل إعادة تموضع نحو أنشطة أكثر ارتباطًا بالذكاء الاصطناعي والبيانات.
السياق الأوسع: دورة اقتصادية متشابكة مع ثورة تقنية
المحللة الاقتصادية مارثا غيمبل من جامعة ييل حذّرت من المبالغة في تفسير كل تسريح كأثر مباشر لتقنيات الذكاء الاصطناعي. فالكثير من الشركات التي تُسرّح الآن هي ذاتها التي ضاعفت قوتها العاملة خلال فترات الفائدة المنخفضة وجائحة كورونا. ومع بدء دورة التشديد النقدي في 2022، كان من الطبيعي حدوث تصحيح في هيكل الإنفاق.
الاختلاف هذه المرة أن "الذكاء الاصطناعي" أصبح جزءًا من اللغة الاقتصادية للشركات، يُستخدم لتبرير التحول التنظيمي وتسريع إعادة توزيع الموارد. التحدي الأكبر هو في التمييز بين التسريحات الناتجة عن ضغط السوق، وتلك الناتجة عن تبنّي فعلي للذكاء الاصطناعي داخل العمليات.
التأثير العملي: من يُستبدل ومن يُعاد توجيهه؟
في المدى القريب، الوظائف الأكثر تأثرًا هي التي تعتمد على المهام المتكررة والقابلة للأتمتة — من مراكز الدعم إلى التحليل الأساسي للبيانات. لكن في المقابل، تتزايد الحاجة إلى متخصصين في تطوير أدوات الذكاء الاصطناعي نفسها، وفي ضمانات الأمان والجودة، وفي دمج النماذج الذكية في أنظمة الإنتاج.
أمازون، مثل غيرها من العمالقة التقنيين، تعيد صياغة وظائفها حول الذكاء الاصطناعي بدلًا من أن تتركه يبتلعها. وهذا ما يجعل السؤال أكثر دقة: ليست "هل وصلت تخفيضات الوظائف؟" بل "إلى أي مدى سيعيد الذكاء الاصطناعي تعريف معنى الوظيفة؟"
أين يصبح الأمر مثيرًا تقنيًا حقًا
بعض التحليلات الصناعية تشير إلى أن الشركات بدأت تفكر في استخدام أدوات تحليل البيانات والذكاء الاصطناعي داخليًا لتقييم الكفاءة وتحديد أوجه القصور التنظيمي. ورغم أن هذا الاتجاه ما زال في مراحله المبكرة، إلا أنه يفتح الباب أمام استخدام أوسع لتقنيات التحليل الذكي في قرارات إعادة الهيكلة مستقبلًا.
هذا التحول المحتمل لا يتعلق فقط بتقليص العمالة، بل بإعادة تعريف دور الذكاء الاصطناعي داخل المؤسسات: من أداة تشغيلية إلى شريك في اتخاذ القرار الإداري.
وهو ما قد يغير جذريًا الطريقة التي تفكر بها الشركات في الكفاءة والموارد البشرية خلال العقد القادم.
تحليل تاريخي ورؤية مستقبلية
يُظهر تحليل تاريخي للصناعة التقنية أن كل ثورة تكنولوجية كبرى تتبع نمطًا مشابهًا: وعدٌ بالتحول وكابوس البطالة. حدث ذلك مع الأتمتة الصناعية في التسعينات، ثم مع الحوسبة السحابية، والآن مع الذكاء الاصطناعي. في كل مرة، لم يختفِ العمل، بل تغيّر شكله.
ويشير الخبراء إلى أن التركيز يجب أن ينصب على المهارات التي تتشكل، وليس على الوظائف التي تختفي. فالأدوات الحالية للذكاء الاصطناعي تتفوق في أتمتة المهام المنظمة والمتكررة، لكنها لا تزال بحاجة إلى إشراف بشري في مجالات التفكير التحليلي وحل المشكلات المعقدة.
الاختلاف اليوم هو السرعة المذهلة والعمق الهيكلي لهذا التحول. الذكاء الاصطناعي لا يستبدل الأيدي العاملة فقط، بل يعيد تعريف مفهوم الكفاءة ذاته داخل المؤسسات. لذا، فإن السؤال الحقيقي ليس "هل وصلت تخفيضات الوظائف في مجال الذكاء الاصطناعي؟"، بل "هل نحن مستعدون لدورة العمل القادمة التي سيقودها الذكاء الاصطناعي؟"
